قواعد الصحة النفسية للطفل
دكتور / محمد المهدى
استشارى الطب النفسى
إشكالية العلاقة بين الآباء والأبناء :
من خلال الجلسات النفسية الفردية وجلسات العلاج النفسى الجمعى ينكشف الستار عن اضطراب العلاقة بين الأبناء والآباء , ويكون هذا الإضطر اب من أهم العوامل المهيئة والمرسبة للإضطرابات النفسية لدى الطرفين.
وفى أغلب الحالات تضطرب هذه العلاقة دون قصد فالوالين بدافع فطرى يريدان السعادة والنجاح لأبنائهما ولكنهما أحيانا يفقدان الطريق الصحيح عن غير قصد فيتورطان فى الإفراط أو التفريط وتكون النتيجة فى الحالتين اضطرابا نفسيا فى الطفل الذى أحبانه ودفعا حياتهما ثمنا ليكون سعيدا . ومما يزيد الأمر صعوبة فى بيئتنا الشرقية أن اضطراب العلاقة بين الآباء والأبناء يظل تحت غطاء ساتر طوال الوقت ولا ينكشف إلا فى ظروف شديدة الخصوصية كالعلاج النفسى الفردى أو الجمعى أو العائلى , أما فى غير هذه الظروف فإن الأبناء - غالبا - لا يجرؤن على الإقتراب من هذه المنطقة الحساسة وهم فى حالة الوعى العادى , أما الآباء فإن لديهم اعتقاد بأنهم قدموا أفضل ما عندهم لأطفالهم ولكن تمرد الأطفال وعصيانهم للأوامر هو الذى جعلهم فى حالة اضطراب .
مفهوم الصحة النفسية :
تراكمت فى السنوات الأخيرة معلومات مفيدة حول أفضل الوسائل للوصول إلى الصحة النفسية للطفل وعلاج الإضطرابات النفسية لديه , وقد حاولنا - بعون من الله - أن ننتقى من المعلومات المتوافرة ما يتمشى مع ثقافتنا ويساعدنا فى تربية أبنائنا وبناتنا بشكل صحيح .
ولا يعتقد أحد أن عملية التربية عملية سهلة , وإنما هى دائما تحتاج إلى جهد وتواجه مشكلات وصعوبات , ونحن هنا نحاول أن يكون الجهد المبذول على الطريق الصحيح .
ونحن لن ندخل في عرض نظريات تربوية ترهق القارئ وربما لا تعنيه كثيراً وإنما سنتكلم بشكل عملي من خلال الرسائل التي تصلنا كل يوم أثناء الجلسات النفسية العميقة سواء كانت فردية أو جماعية مع الأطفال والكبار . وفي هذا الصدد نواجه سؤالاً بالغ الأهمية ، ما هي الصحة النفسية؟ وكيف يصبح الإنسان صحيحاً نفسياً ؟
قد تكون الإجابة ببساطة هي أن الإنسان الخالي من الأمراض النفسية هو الإنسان الصحيح نفسياً ، لكن هذا التعريف للصحة النفسية مختزل جداً ، ولا يؤدي الغرض ، لأن هناك بعض الأشخاص لا يعانون من أي مرض نفسي لكن أداؤهم في الحياة أقل مما هو متوقع لأمثالهم ، فحركتهم في الحياة وتكيفهم الاجتماعي وإبداعاتهم أقل مما هو متوقع ، فلا نستطيع أن نقول أن شخصاً ما صحيح نفسياً لمجرد كونه خالي من الأمراض النفسية بالمعنى الإكلينيكي لها ، إذاً فهنالك تعريف أكبر وأشمل وأوسع للصحة النفسية . واختصاراً لجهود كثيرة ، وصل العلماء إلى أن الصحة النفسية هي مفهوم إيجابي متعدد المستويات يكون فيه الإنسان صحيحاً على المستوى الجسدي ثم على المستوى النفسي ثم على المستوى الاجتماعي ، ثم على المستوى الروحي ، إذاً فهو مفهوم متعدد المستويات لابد أن يكون في حالة توازن ما بين إشباع هذه المستويات وتنشيطها ، فلو بالغ أحدهم في إشباع الجانب الجسماني على حساب الجانب النفسي أو على حساب الجانب الروحي ، فبالتالي يكون قد أخل بالتوازن ، ويصبح غير صحيح نفسياً .
قواعد الصحة النفسية للطفل :
وإذا انتقلنا من العام إلى الخاص وحاولنا الإجابة على تساؤل أحد الأمهات ( أو الآباء ) : كيف أتعامل مع ابنى لكى يصبح صحيح نفسيا ؟
والإجابة على هذا التساؤل الهام تتمثل فى اتباع القواعد التالية :
1- التوازن بين التطور والتكيف :
هناك قاعدة تربوية هامة يمكننا اعتبارها قاعدة ذهبية في هذا المجال ، وهي أن الطفل كائن نامي ، ينمو كل يوم ، ينمو في جسده وفي تفكيره وفي طاقاته وفي إدراكه وفي كل شيء ، فهذا الطفل النامي يتغير من لحظة لأخرى ومن يوم لآخر ، وفي ذات الوقت يحتاج مع هذا التغيير المستمر وهذا النمو المطرد أن يكون في حالة تكيف وانضباط وسلام مع البيئة والمجتمع المحيط به ، وبهذا سنقول أن هذا الطفل لكي يكون صحيح نفسياً ونطمئن عليه ، فلابد أن يكون هناك توازن بين متطلبات نموه وتطوره ومتطلبات تكيفه مع المجتمع والحياة . ولكى نرى هذا المفهوم بشكل أوضح ، سنفترض أن هناك كفتين ، الأولى كفة التطور والثانية كفة التكيف ، ولكي يكون الطفل صحيح نفسياً ، لابد من حدوث توازن ما بين هاتين الكفتين ، فلو تخيلنا أن كفة التطور زائدة عن كفة التكيف أو أصبحت هي الحائزة على الاهتمام فسيتطور الطفل وينمو بسرعة في جسمه وفي ذكائه وفي تفكيره وفي كل شيء يخصه ، ولكن – وبالمقابل – ليست له علاقة بالمجتمع الذي يعيش فيه ولا يتكيف معه ، فهو في حالة تطور مطلق بدون قيود ، وإذا ترك بهذا الشكل سيصبح أنانياً ولديه حالة نرجسية شديدة ولا يفكر إلا في نفسه ونموه وتطوره ، وفي النهاية سيكون مدمرا لمن حوله ولنفسه أيضاً وفي حالة صراع دائم مع البيئة التي يعيش فيها ، برغم كونه متطورا وناميا ومبدعا .
وعلى العكس ، إذا كان هناك طفل آخر متكيف بدون تطور ، بمعنى أنه مطيع جداً ، هادئ جداً ، ولا يفعل شيئ إلا بأمر من الأب أو الأم ، ويحتاج لأمر آخر ليوقف هذا الفعل ، فهو مطيع تماماً لكل ما يأتي إليه من أوامر وتوجيهات وليست له أي حركة تطور أو نمو أو تفكير أو إبداع أو أي شيء .
هذا الطفل في معيار الأب والأم وهو صغير طفل مريح جداً لأنه ( بيسمع الكلام ) وهذا هو هدف كل أب وأم , ولكن عندما يكبر سيدرك الأبوين أن هذا الطفل عبء شديد جداً عليهم لأنه لا يمتلك أي مبادرة ولا يمتلك أي ملكات أو قدرات ولا يستطيع عمل أي شيء بمفرده ، شخصية اعتمادية سلبية مملة .
إذاً فلكي تتحقق الصحة النفسية لأطفالنا لابد من مساعدتهم حتى يتطوروا وينموا وفي نفس الوقت نساعدهم على التكيف مع البيئة التي يعيشون فيها ، وهذا التوازن ليس توازناً جامداً أو ساكناً بحيث نزيد هذه الكفة وننقص الأخرى مرة واحدة وتنتهى المهمة ، لكن طالما كانت حركة النمو والتطور سريعة ومتغيرة فلابد من أن يواكبها تغير في حركة التكيف ، فالتوازن هنا توازن ديناميكي بمعنى أنه يتطلب قدر عالي من المرونة ، كلما زادت كفة نزيد الأخرى بمقدار مناسب وهكذا .
2 - الدوائر المتسعة : صحة الطفل - صحة الأم - صحة الأسرة - صحة المجتمع :
وهذا التوازن ( المذكور أعلاه ) ليس فقط فى دائرة الطفل ولكن هناك دوائر أخرى متتالية تحتاج للتوازن فلن ننظر للطفل على أنه كائن وحيد ، لكن سننظر إليه باعتباره دائرة تحوطها دائرة الأم تحوطها دائرة الأسرة تحوطها دائرة المجتمع ، ولهذا يجب أن تكون هناك حالة توازن بين هذه الدوائر فننظر لصحة الطفل وصحة الأم وصحة الأسرة وصحة المجتمع ، فالأم هي الحضن الأقرب للطفل ، فلا نتصور وجود ابن صحيح نفسياً وله أم مضطربة نفسياً ، والأسرة هي الحضن الأكبر الذي يحتضن الطفل والأم معاً ، فلا نتصور كون الطفل والأم صحيحين معاً في حين أن الأسرة مضطربة ، والطفل والأم والأسرة يحتضنهم المجتمع وهو الدائرة الأكبر فلا نتصور أن يبقى هؤلاء في صحة في حين أن المجتمع في حالة اضطراب .
وعندما نقوم كمعالجين بتقييم حالة طفل ننظر لهذه الدوائر ونحدد موضع الخلل , فأحياناً يأتي الطفل باضطراب معين ، وحينما نفحصه نجد أن هناك خلل في أحد هذه الدوائر أو فى أكثر من دائرة ، فلابد من التفكير في إصلاح هذا الخلل ، ولا نتوقف عند الطفل فقط ، لأن الطفل هو ممثل هذا الاضطراب ، فالطفل أكثر صدقاً وأكثر براءة وأكثر شفافية ، فيظهر فيه الاضطراب بوضوح لكن لا يكون هو أصل الاضطراب فقد يكون هذا الاضطراب من أم مكتئبة أو مجهدة أو مدمنة أو الأسرة أو المجتمع فننظر إلى أصل هذا الاضطراب . أحياناً نتجه مباشرة لعلاج الأم أولعلاج الأسرة ، أو يكون هناك خلل اجتماعي معين ولو تم تصحيح هذا الخلل يكون هذا الطفل في حالة أفضل .
3- الصحة النفسية بين المطلق والنسبى :
وفي الواقع ، مفهوم الصحة النفسية لكل هؤلاء ( الطفل - الأم - الأسرة - المجتمع ) مفهوم نسبي وليس مفهوماً مطلقاً ، بمعنى أنه يختلف من بيئة لأخرى ومن مجتمع لمجتمع ومن أسرة لأسرة وما يمكن اعتباره صحياً في مكان ، يمكن اعتباره اضطراباً في مكان آخر .
ولتقريب الفكرة ، سنحكي حكاية صغيرة عن شيخ قبيلة أناني جداً ، هذا الشيخ عرف بطريقة سرية أن البئر الذي تشرب منه القبيلة كلها ، سيسمم في يوم من الأيام ، ونظراً لأنانيته وحبه لنفسه ، أخذ يخزن مياه كافية من هذا البئر في منزله حتى إذا تسمم البئر ، يجد ما يشربه ، فجاء اليوم وتسمم البئر فعلا وأصيب أهل القبيلة كلهم بالجنون ولكنهم لم يموتوا ، فظل هو العاقل الوحيد بينهم ، طبعاً استغرب أهل القبيلة تصرفاته في وسطهم ولم يحتملوه بينهم وفي النهاية قتلوه. فعلى الرغم من أنه العاقل الوحيد بينهم إلا أن اختلافه جعله في أزمة معهم ، وحدث عدم تناسب بين تفكيره وتفكيرهم . إذن فلابد من أخذ هذا العامل في الاعتبار , لأن هناك اضطرابات كثيرة في الأطفال تكون مشكلتها النسبية في الصحة والزمان والمكان ، فلابد من وضع اعتبار للزمان والمكان والظروف عند تقييم هذا الطفل .
سنعطي مثالا آخر بسيط ليوضح هذه النقطة : لو أن هناك طفل تشتكي أمه من كونه كثير الحركة ويقفز فوق الشبابيك وعلى البلكونات ويكسر الكراسي والأشياء ، وهم يعيشون في شقة غرفتين وصالة ، فهذا الطفل لو تخيلنا أنه انتقل من هذه الشقة الضيقة المحدودة الممتلئة بأشياء زجاجية وقابلة للكسر ، ووضعناه في بيت واسع حوله ساحة كبيرة وشجر ، وعاش الطفل في هذا المكان الجديد يجري في الساحة الخضراء ويقفز فوق الأشجار كما يريد ، وقتها لن تحس الأم أي شقاوة منه أو أي حركة زائدة ، وفي نهاية اليوم يعود بعد هذا الجهد المضنى لينام والأم راضية وهو راض ، هنا اعتبار المكان والظروف مهم جداً .
4 - الإستقطاب بين النقيضين مقابل الحوار والتعايش :
هناك أسر تكون في حالة استقطاب ما بين نقيضين ، بمعنى أنها أسرة أحادية النظرة وأحادية التفكير ، فلا ترى الأشياء إلا بلونين ، أبيض أو أسود ، ولا تستطيع رؤية درجات الألوان البينية ما بين الأبيض والأسود ، يرون أن ما يفعلوه هو الصحيح المطلق وكل ما عداه خطأ ولا يقبل النظر ولا التفكير ولا الحوار ، فينشأ الطفل في هذا الجو وهو مستقطب استقطابا شديدا في ناحية واحدة أو اتجاه واحد ، أحادي التفكير ، لا يستطيع رؤية سوى احتمال واحد في كل شيء ولون واحد من كل الألوان .
من هنا عندما يكون الاستقطاب في اتجاه ، لابد أن يتصارع مع الاتجاه الآخر أو يضاده ، ويفقد هذا الطفل القدرة على التحاور والتعايش مع الآخرين المختلفين عنه ، وبهذا الشكل يصبح الطفل دائماً في صراع مع أصحابه ، ومع الجيران ، ومع المجتمع ، وعندما يكبر ، يظهر موضوع الاستقطاب وأحادية التفكير مع الأب والأم ، لأنه تعود أن الحقيقة واحدة فقط ، الدنيا بها لون واحد ، عندما يكبر ويدخل فترة المراهقة ، يختلف عن الأب والأم ، لا يحتمل هذا الاختلاف فيبدأ بالعدوان على الأب والأم ، لأنهم لم يعودوه الاختلاف مع الآخرين ، والتحاور والتعايش معهم ، فيدفع الأب والأم ثمن هذا الاستقطاب الذي أعطوه للطفل من خلال الجو الأسري القائم على فكرة الاستقطاب أو أحادية التفكير .
5- الإحتياجات بين الإشباع والحرمان :
للإنسان عدد كبير من الاحتياجات ، وهناك عالم نفس شهير هو أبراهام ماسلو ، قام بعمل ما يسمى " هرم الاحتياجات " ، فقال إن الإنسان له احتياجات جسمانية بيولوجية عبارة عن الأكل والشرب والمسكن والملبس ، هذه الاحتياجات لابد أن تشبع أولاً ، وتمثل قاعدة الهرم ، يليها احتياج للأمن والاستقرار ، يليه احتياج للانتماء ، الانتماء لأسرة ولبلد وللإنسانية ، يليه احتياج للحب ، أن يكون الإنسان قادراً على أن يحب ويحب ، يليه احتياج للتقدير ، أن يحس بأن الناس يقدرونه كشخص ، ويقدرون ما يفعله ، وسعيدون به ، وانتهى ماسلو فى آخر الهرم بالاحتياج لتحقيق الذات ، أن يحقق الإنسان ذاته في هذه الحياة ، وتوقف عند هذه النقطة ، لأنه كان يتبع المدرسة الإنسانية ، التي كانت تنظر للإنسان على أنه هو نهاية المطاف , لكننا نضيف إلى هذه الاحتياجات احتياج مهم جداً هو التواصل الروحي ، فالإنسان لديه احتياج للتواصل الروحي مع الله ، مع الكون ، مع السماء ، مع الغيب ، وهذا الاحتياج يمكن فهمه بشكل عملي وعلمي موضوعي من المعابد المنتشرة في كل أنحاء العالم تمثل مراحل التاريخ المختلفة ، وكيف أن الإنسان كان محتاجا لأن يكون على علاقة بالسماء وبالله سبحانه وتعالى , فأنشئت المعابد في كل الحضارات لتمثل هذا الاحتياج الحيوي المهم عند الإنسان .
و هذه الاحتياجات لابد من أن تشبع بتوازن ، بمعنى أن نبدأ أولاً بالاحتياجات الأساسية ، الأكل والشرب والمسكن والملبس ، ثم الأمان ، والانتماء ، ثم الحب ، وهكذا .. كل حاجة من هذه الحاجات تشبع وتأخذ حقها ، ولا تطغى إحداها على الأخرى ، ومع هذا هناك قاعدة مهمة وهي أن إشباع الاحتياجات لدرجة التخمة يؤدي إلى حالة من الترهل والضعف والمرض ، فلابد من وجود توازن بين درجة الإشباع ودرجة الحرمان ، فالإنسان محتاج أن يشبع وفي نفس الوقت أن يحرم من بعض الحاجات .. لماذا؟ لأن الحرمان ينشط الدوافع ، ويجعل الإنسان يتحرك ويعمل ويكون عنده أمل ، ويسعى وراء هدف ..... لو أشبعت كل حاجة ، فسيتوقف الإنسان عن السعى والحركة والتفكير والإبداع ..... إذن لابد من وجود أشياء يحتاجها .. أشياء يحرم منها ويسعى إليها ويحلم بها ..
إذن فهناك توازن ما بين الإشباع والحرمان ، فالطفل لو أخذ كل احتياجاته فلن يكون صحيحا ، ولو حرم حرماناً شديداً ، ستصبح عنده مشاعر حقد وكراهية وحرمان وكره لمن حوله ، لأن كل الذي يحتاجه لا يجده . وقد وضع علماء النفس معادلة يمكن تجربتها ، وهي في الحقيقة مفيدة ، قالوا أنه يكفى تلبية 70% من احتياجات الطفل ، بمعني : لو الطفل طلب مائة حاجة ، يلبى له منها 70 فقط ، حتى لو كان ال 100 حاجة منطقيين وهو يحتاجهم فعلاً ، لكن تلبية ال 100 حاجة لن تؤدي إلى سلامة هذا الطفل ، فلابد من وجود شيء ينقصه .. يسعى إليه ويحلم به ، ويكون عنده الأمل أن يحصل عليها في وقت من الأوقات ، ونشجعه أن يعمل ويسعى للحصول عليه .
6 - مواكبة مراحل النمو :
غالباً ما تأتي الأم وتقول أن أولادها عندما كانوا صغاراً كانت تحبهم وتحس بأنهم جزء منها ، وكانوا منسجمين جداً معها ، لكن عندما كبروا ، أصبحت تحس بغربة معهم ، كأنهم لم يعودوا أولادها ، ولم تعد منسجمة معهم كما كانت ، فهي عاجزة عن فهمهم ، وهم بالمثل غير قادرين على فهمها ، لا تعرف بالضبط من المخطئ هي أم هم ..... هذه الأم نقول لها أنها كانت متفقة مع أولادها في مرحلة معينة وهم أطفال ، لكن أولادها يكبرون ويتطورون في تفكيرهم وفي عاداتهم وفي تقاليدهم وفي تطلعاتهم , لكن للأسف هي لم تتمكن من مواكبة هذه المراحل ، وقفت عند مرحلة معينة وثبتت عندها فى حين أن أولادها مستمرين في النمو والتطور ، فهنا نشأت فجوة ما بين الاثنين ، فتكون الغربة واختلاف اللغة ، فهي لا تفهم دنياهم ولا حياتهم ولا طبيعة المجتمع الذي يعيشون فيه ، وطريقة التعامل بينهم ..... وهكذا نقول لها أنها هي والأب لابد وأن يواكبوا مراحل النمو ، بمعنى أن يعيشوا معهم مرحلة مرحلة . وهذه المواكبة مفيدة ليس فقط للأبناء ، بل للأب والأم لأنهما أيضاً محتاجين لأن يعيدوا هذه المراحل مرة أخرى لأنفسهم ، فمثلاً هناك أب لم يعش مرحلة طفولته جيداً ، ولم يعش مرحلة مراهقته جيداً ، لأي سبب من الأسباب ، فيعيد التجربة مرة أخرى مع أولاده في هذه المرحلة ، وكأنه يعيش المرحلة التي فقدها أو التي أفلتت منه بدون ذنب منه ، أو لأي ظروف حدثت ، هذا يفيد نفسياً ، لأن الأشياء التي لم يتمكن من فعلها ، سيعود لمعايشتها مرة أخرى ، فيكمل النقص أو الأماكن التي كانت مؤلمة نتيجة للحرمان في مرحلة معينة ، وفي نفس الوقت سيكون على نفس الموجة مع أبنائه ، فتعطي فائدة مزدوجة للطرفين ، وتجدد دائماً طفولة ومراهقة وشباب الأب والأم وتقوم بعمل حالة من التكامل في شخصيتهما .
7 - احترام إرادة الطفل :
كثير من الآباء والأمهات يظنون أن الطفل ليست له إرادة أو أنها تنمو عندما يكبر ويصبح شاباً أو رجلاً ، لكن الطفل له إرادة من وقت مبكر جداً ( ويمكن أن تلاحظ الأم هذا من خلال رفضه لأشياء وتمسكه بأشياء ) وليس مسلوب الإرادة ويتحرك بريموت كونترول كما يريد الأب والأم ، وحتى وهما معترفين بوجود هذه الإرادة ، يريدون أن يلغوها ، لأنهما يعتقدان أن عندهم خبرة وعندهم معرفة بالحياة أكثر من هذا الطفل فلابد من أن يختاروا له طريقته في التفكير وفي الحياة وفي تحديد الأهداف والأساليب وكل شيء ، وكثير من الآباء والأمهات يصلون إلى درجة أن يحاولوا جعل هذا الطفل صورة طبق الأصل منهم ، وهم يعتقدون - واهمين - أنهم أفضل صورة إنسانية ممكنة أو أفضل نموذج ممكن ، وعندما يواجه الطفل بمحاولة إلغاء إرادته يبدأ في هذه اللحظة فى اتباع سلوك العناد ، وهذه مشكلة كثير من الآباء والأمهات يشكون منها ويقولون أن ابنهم عنيدا ، ويحاولون علاجه من هذا المرض ، العناد ! ، ويحضرون هذا الإبن لكي يقوم الطبيب النفسي أو المعالج بترويضه لكي يسمع الكلام ويقوم بتنفيذ كل ما يريدونه ، طبعاً هذا غير ممكن عملياً , وإرادة الله أعطت لهذا الطفل هذه الملكة ...... أن تكون له إرادة مستقلة ، خلقه الله صاحب إرادة ، فلماذا نحاول أن نغير خلق الله ، وهذا لا يعني أن نتركه تماماً ليفعل كل ما يشاء بناءاً على كونه لديه إرادة مستقلة .
وقد قام العلماء بتقسيم الهداية ، وهي نوع من التربية والتوجيه ، فقالوا إن الهداية نوعان : النوع الأول " هداية إبلاغ " ، والثاني " هداية فعل " . هداية الإبلاغ هذه أن نقول للطفل هذا صواب وهذا خطأ ، لابد لكي يكون عنده قانون يتكيف به مع الحياة والبيئة ومع الكون كله ، فلابد أن يبلغ الأب والأم هذا القانون للطفل ، ولكن لا يتوقعوا الامتثال التام لهذا القانون بمجرد إبلاغه ، لأن هناك هداية أخرى هي هداية الفعل ، أن يستجيب الطفل للرسالة التي وصلته لا يعني بالضرورة أن يستجيب لها كلها ، يستجيب لأشياء ويؤدي أشياء ويغير أشياء ويعدل أشياء ، لأن الله خلق له إرادة ورؤية , وله فكر حتى وهو صغير ، لابد أن نتأكد من هذا تماماً ، فسيبدأ في الاختيار ، وسيبدأ بالتجريب . الأب والأم وصلوا لما هما فيه حالياً بعد مراحل كثيرة من التجارب والأخطاء والنضج والتعلم ، ويريدون أن يأخذ الطفل أو الطفلة نفس النمط الذي وصلوا إليه في هذه المرحلة من العمر ، مثلاًَ هما في الأربعين أو الخمسين ، يريدون أن يكون لطفل أو طفلة فى عمر خمس سنوات أو عشر سنوات نفس آرائهم وتوجهاتهم ، وهذا ضد الفطرة ، وضد طبيعة الإنسان ، وضد إرادته واختياره ومسئوليته التي خلقه الله عليها ، ولو أصر الأب والأم على هذا تحدث المشكلة التي نراها دائماً ويشتكي منها الكثير من الآباء والأمهات ، أن الطفل عنيد أو الطفلة عنيدة ، لا يسمعون الكلام ، لا يريدون تنفيذ سوى ما يرونه ، الحقيقة أن ما خلق هذا الموقف المعاند ، هو أن الأب والأم دخلوا في شرنقة الماضي ، ولم يتمكنوا من رؤية احتياجات الطفل وضروراته ومجتمعه وظروفه والدنيا التي يعيش فيها ، فهو يعيش في دنيا مختلفة كثيراً عن دنياهم ، وبما أن لديهم سلطة على هذا الطفل فإنهم يحاولون التحكم فيه ، وجعله يمشي على شريط القطار الذي حددوه له ، النتيجة ستكون شيئاً من اثنين ، إما أن يستسلم الطفل تحت هذا الضغط والقهر من الأبوين ، فيكون طفلا سلبيا واعتماديا ليس له إرادة ولا اختيار ولا مبادرة ولا تلقائية ولا أي شيء على الإطلاق ، هو أسلم كل شيء للأب والأم ، وفي نفس الوقت يقوم بعمل شيء يسمى العدوان السلبي ، ( مش انتوا عايزين ده؟. شوفوا بقى إيه اللي هيحصل ) ، من الممكن أن يفشل دراسياً ، أو اجتماعياً ، أو أخلاقياً ، هو قد سلم نفسه ، ويريد أن يحمل نتيجة هذا الفشل للأب والأم اللذان أصرا على التحكم في خط سيره وعلى جعله صورة طبق الأصل من الذي يريدونه .
ومن الممكن أن يتمرد الطفل ، أن يرفض عمل أى شيء ، ويصبح عدوانيا ، يفعل ضد كل ما يقولونه له ، ويصبح عنيفا جداً ، ( عايزيني أذاكر ، لأ مش هذاكر ، عايزيني أنجح ، لأ مش هنجح ، عايزيني أبقى أخلاقي كويسة ، لأ همشي مع أسوأ ناس واعمل كل اللي انتوا بتكرهوه ) ، لأن هناك صراع إرادات ، إما أن أكسب أنا أو أنتم ، وطالما لدي شيء أستطيع عمله ، فسأقوم به ، وسنرى في النهاية من سيكسب .. وتكون رحلة صراع مؤلمة وضارة للطرفين ويتراكم فيها ، مشاعر سلبية عند الطفل تجاه الأبوين ، وعند الأبوين تجاه الطفل ، ويدخل الجميع في أزمة ، لا يستطيعون الخروج منها ، إلا لو دخل طرف ثالث ، يفك هذا الاشتباك ، ويبدأ في إخراج هذه المشاعر السلبية التي تراكمت ومشاعر الصراع والعداء التي تكونت نتيجة لإصرار كل طرف على إلغاء إرادة الطرف الآخر .
وهناك أمثلة عظيمة جداً من سلوك بعض الأنبياء في هذه المسألة لأن بعض الناس يظنون أحياناً أن واجبهم الديني أن يحموا أولادهم من الخطأ , وهذا صحيح ، قال تعالى : " يأيها الذين آمنوا ، قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة " ، لابد من توعية الابن للشيء الذي يمكن أن يؤدي لهلاكه في الدنيا وفي الآخرة ،وهذه وظيفة الأب بسبب خوفه على الابن ، ولأنه أغلى شيء بالنسبة له , ووظيفة الأم أيضا . لكن سنقول أن ما علينا هو هداية التبليغ ، لكن هداية الفعل نترك أمرها لله سبحانه وتعالى ، وندعوا أن يوفق الله الابن لها ، لأننا لا نملكها . فأنت أيها المربى تقوم بعمل ما عليك لكن في النهاية ستحترم إرادة الابن أو البنت واختياره ، حتى لو كان هذا ضد اختيارك أو عكسه ، الكثير من الناس لن يحتمل هذه الفكرة وسيدخلون في صراع مع الأبناء ، سنعطي مثلاً لاثنين من الأنبياء الكرام الأول : نوح عليه السلام ، وابنه ، نوح جهز السفينة ، ويعرف بمجيء الطوفان ، فنادى لابنه ، ولم يكن ابنه على نفس الطريق ، فقال : " يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين " ، وهذه كانت إرادة نوح عليه السلام ، ورؤيته ، بناءاً على خبرته ومعرفته والوحي الذي ينزل عليه ، وهو نبي ، ويخاف على ابنه ، لكن تظهر إرادة الابن ورؤيته واختياره : " سآوي إلى جبل يعصمني من الماء " ، فرد الأب : " لا عاصم اليوم من أمر الله " ، اليوم مختلف عن كل الأيام السابقة ، هذا خطر مختلف تماماً ، ربما كان من الممكن السماح في الاختيار قديماً ، لكن اختيار اليوم مهلك في الدنيا وفي الآخرة ، ستموت على الكفر ، ومع صعوبة الموقف ، نوح يرى ابنه سيموت بعد لحظات على الكفر ، يصر الابن على أن يأخذ هذا الموقف الرافض لموقف الأب ، وكان متوقعا أن سيدنا نوح لو كان يفكر مثلنا ، أن يرسل له أتباعه ليحضروه إلى السفينة بالقوة ، لكن هذا لم يحدث ، سيدنا نوح أدى البلاغ ، وهو يعرف أن هداية الفعل بيد الله سبحانه وتعالى ، ونجا الأب بما رأى وهلك الابن بما رأى وفعل , لكن الله خلق الإنسان بهذه الإرادة ولحكمته أراد لها أن تعمل ، وكان هذا مثلاً في العصيان ، سنأخذ مثلاً آخر في الطاعة ، ونرى أنه أيضاً في حالة الطاعة لا تلغى الإرادة عند الطفل أو عند الابن . سيدنا إبراهيم ، عندما رأى في المنام أنه يذبح ابنه إسماعيل ، وهو يعرف أن رؤيا الأنبياء حق ، وأنها واجبة التنفيذ ، المتوقع - حسب ما نفهم - أن أمر الله لابد من أن ينفذ ، ويذبحه فوراً ، لكن سيدنا إبراهيم لم يفعل هذا احتراماً لإرادة ابنه إسماعيل فذهب إليه بمنتهى المودة والرحمة والعطف : " يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى " ، نرى كيف قال له سيدنا إبراهيم : " يا بني " ، و" إني أرى في المنام " ،لأنه لو كان قال له إن الأمر من الله مباشرة ، لما كان من الممكن أن يختار ، لكنه أعطى فرصة لإسماعيل ليقول رأيه ، مثلاً ، هذا منام ويمكن تأجيله أو التفكير فيه ، فانظر ماذا ترى ؟ ، مع أن سيدنا إبراهيم يعرف أنه لا رأي هنالك ، هذا أمر إلهي ، يقول سيدنا إسماعيل عليه السلام : " يا أبتي افعل ما تؤمر ، ستجدني إن شاء الله من الصابرين " ، هنا اختار وكان له فضل الاختيار يثاب عليه ، ولم يذبحه مباشرة بدون اختيار ، حتى لا يكون قد ذبح غدراً ، دون إرادة ، ولكن ترك له فضل الاختيار . وهذا درس يعلمنا أن الطفل له إرادة وأننا كآباء وأمهات ليست وظيفتنا أن تلغي هذه الإرادة عند الطفل ، ولكن أن نوجه و نهذب ، أن نقول ونبلغ ونوضح ونبين ، لكن في النهاية ، سنسلم ، لأن هذا الطفل له إرادة وأن الله شاء بحكمته أن تكون هذه الإرادة موجودة ، وتأتي آية مهمة تحسم هذا الموضوع تقول : " ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس أن يكونوا مؤمنين " ، فاحترام إرادة الإنسان حتى في الإيمان والكفر " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " ، لا يوجد إكراه حتى في الأشياء شديدة الأهمية ، إذن فمن باب أولى أن ألأشياء الأقل أهمية لا يوجد فيها إكراه . ولكى يؤكد لنا ربنا هذه الحقيقة ضرب أمثلة لاستحالة إكراه البشر على شئ وكانت الأمثلة تمثل غالبية العلاقات بين البشر , فهذا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم لم يستطع هداية عمه أبوطالب رغم كل ما بذله معه من جهد , ولذلك قال له الله تعالى " إنك لاتهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء " , وسيدنا إبراهيم لم يقدر على هداية أبيه , وسيدنا لوط لم يقدر على هداية زوجته , وسيدنا نوح لم يقدر على هداية ابنه ....... وهكذا تتعدد النماذج فى علاقات مختلفة لتثبت فى النهاية أن هداية الفعل لا يملكها إلا الله سبحانه وتعالى , لذلك حين يفعل الأب ما عليه أو تفعل الأم ما عليها فلا يبقى إلا أن يدعوا لابنهما بالهداية والتوفيق , ولا يحاولان قهره أو إلغاء إرادته .
وهذه النقطة تسبب صراعاً شديداً ما بين الآباء والأمهات من ناحية والأبناء من ناحية أخرى ، وتداعياتها السلوكية كثيرة جداً ، إما سلبية واستسلام و شخصية اعتمادية وإما عناد وتمرد ومكايدة وصراع ومشاكل ليس لها أول من آخر .
8 - مراعاة مشاعر الطفل :
ففي مجتمعاتنا - كما قال أحد العلماء - عندنا أمية تربوية وعندنا أمية نفسية ، وعندنا أمية وجدانية . الأمية التربوية هي أننا محتارون في كيفية تربية الأولاد ، ولدينا أخطاء كثيرة ، كلنا بلا استثناء بما فيهم من يحاضر في التربية ، والذين يقومون بأبحاث كبيرة جداً في التربية ، عندهم أخطاء في تربية أولادهم ، لأن موضوع التربية هذا لم يأخذ منا اهتماماً كثيراً ، أحياناً نربيهم بطرق محفوظة وأنماط جامدة غير مرنة ، ونصمم عليها ، ولا نغيرها مع الوقت ، رغم أن الطفل كما قلنا يتغير وينمو ، واحتياجاته تختلف من وقت لآخر ، لكننا توقفنا عند أنماط جامدة وقواعد صلبة وصممنا عليها فهنا ، حتى رغم أن هذه القواعد من الممكن أن تكون صحيحة إلا أن عدم تغييرها وعدم مواكبتها لتطور الطفل ونموه يجعلها غير صحيحة ، وتحتاج إلى تعديل وتغيير من وقت لآخر ، فعندنا أمية تربوية بلا شك ، وكلنا نحتار في كيفية تربية الأولاد ، وما نقدمه الآن لن يحل المشكلة ، لكنه سيسهل الأمور كثيراً على الأب والأم ، ويكون كمصابيح تنير بعض المناطق ، وليست لدينا خبرة كافية لنفوسنا ولنفوس الآخرين ، لهذا نحس بعدم الراحة ، وعلاقاتنا مضطربة ، وهناك الكثير من الصدامات والاحتكاكات بسبب الأمية النفسية ، فنحن لم نعطي لهذا الجانب أهمية ، بأن نفهم أنفسنا ونفهم الآخرين . أما الأمية الوجدانية فهى أمية المشاعر ، بمعنى أننا لا نعطي للمشاعر اهتماماً كبيراً ولا نراعي مشاعر بعضنا بشكل كاف ، ولا يهمنا الكلمة التي نقولها إن كانت تؤثر في هذا أو تغضب ذاك ، فكثيراً ما نقوم بعمل أشياء لا نحس بها ولكنها تسبب آثاراً كبيرة على الناس ، والطفل - على وجه الخصوص - كائن رقيق بريء ناعم ولطيف ، تكون له مشاعر مرهفة جداً وتحتاج للتعامل بدقة وحساسية لأن هذا الطفل كيان بريء يحتاج أن تكون في غاية الحرص والحذر في التعامل معه ، فإذا انتهكت هذه البراءة بتعامل فظ غليظ خشن لا يقدر أن لهذا الطفل مشاعر وأحاسيس فإنك تؤذيه غاية الإيذاء دون أن تدرى ودون أن يستطيع هو التعبير لفظيا عما حدث له , فالطفل لم يتعود بعد التعبير عن مشاعره بلغتنا المعتادة لذلك حين يتأزم وجدانيا ربما يظهر عليه ذلك فى صورة اضطراب فى الشهية أو اضطراب فى النوم أو اضطراب فى السلوك . والحقيقة أننا لا ندرك هذه المشاعر بدرجة كبيرة وأن مشاعر هذا الطفل مختلفة عن مشاعرنا ولا تظهر بالشكل الذي اعتدناه لأنها لم تأخذ الشكل المميز لكنها موجودة ، ونحن في حاجة لقراءتها بلغتها البسيطة دون تعقيد .
9 - رعاية مواهب الطفل واحترام الفروق الفردية بين الأطفال :
كثير من الآباء والأمهات يريدون للأطفال أن يصبحوا قالباً واحداً ، يريدونهم بنفس السلوك ،
( الولد ده طيب ومطيع يبقوا كلهم يطلعوا كده ، الولد ده شاطر في المدرسة يبقوا لازم كلهم يكونوا شاطرين في المدرسة ، الولد ده بيعرف يرسم يبقوا لازم كلهم يعرفوا يرسموا ، الولد ده حفظ القرآن في سن صغير يبقوا لازم كلهم يحفظوا القرآن في سن صغير ) . إهدار الفوارق الفردية يسبب مشكلة كبيرة ، أو عدة مشاكل ، أولاً : ينكر فطرة خلقها الله في الإنسان ، وهي أن كل إنسان في هذه الدنيا يؤدي رسالة معينة ويضيف للحياة شيئاً مختلفاً عما يضيفه باقي الناس ، فكيف نريد منهم أن يكونوا كلهم شيئاً واحداً ، نفس الطريقة ونفس الأسلوب وكما نريد لا كما يريدون ، هنا كل فرد سيفقد القدرة الخاصة التي وهبه الله إياها ، حيث أن كل إنسان وهبه الله قدرة خاصة ليضيف بها إلى هذه الحياة ، فبإنكارنا لهذه الموهبة ، تضيع الموهبة وفي نفس الوقت لن نتمكن من إجبار الطفل على التميز في مجال ليس موهوباً فيه ، كما يجعل الأولاد يغارون من بعضهم ، لأن كل طفل يريد أن يصبح مثل أخيه ، ولا يستطيع ، يبدأ في كرهه لأنه يشعر بأنه يقوم بعمل شيء يعجب الأب والأم وهو لا يستطيع عمل هذا الشيء الذي يحوز رضا وإعجاب الأبوين ، وينظرون إليه على أنه أقل من أخيه ، فيغار منه ، ويكرهه .
لكن لو أحس كل طفل بأنه محبوب لذاته ولإمكانياته , وأننا لا نقارنه بأخيه ، ولكن نقول له أنه متميز في كذا ، وأخوه متميز في كذا ، وأننا نحترم قدراتهم ومواهبهم وفروقهم الفردية فإن ذلك يؤثر إيجابيا عليهم جميعا .
لو عرفنا هذه الحقيقة وعرفنا أن الله سبحانه وتعالى أعطى كل إنسان قدرة وملكة وموهبة ، يقوم بعمل شيء معين بها في هذه الدنيا ، فستختلف أحوالنا بكل تأكيد مع أطفالنا ، سننظر إليهم بعطف ورعاية لكل موهبة عند كل طفل ، بالشكل الذي تظهر به ، وننميها ونهذبها ونكبرها ونوجهها ، لكن لا نطفئها ، فنحن في مجتمع - للأسف الشديد - يقتل كل المواهب ، لأن لدينا تصور أن النجاح نمطي ، وتصور يكاد يكون أحاديا ، أن الطفل لابد من أن يقوم بعمل أشياء معينة ، ولكن هناك ألوان كثيرة من النجاح والإبداع والعطاء وألون كثيرة من تعمير هذه الحياة ، كل شخص يقوم بعملها بطريقته ، وبالموهبة التي منحه الله إياها ، فلا نشوه هذه الفطرة .
والرسول صلى الله عليه وسلم ، كان حوله نخبة ممتازة من الصحابة ، كل واحد منهم لديه خلفية ثقافية معينة ، منهم العبد ، ومنهم السيد ، ومنهم التاجر ، ومنهم الصانع ، ومنهم السياسي و العالم والعسكري ، فلم يفرض الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم أنماطاً معينة وثابتة ولم يضعهم في قوالب محددة وإنما نمى كل شخصية لتعطي أفضل ما عندها ، فمن لديه ملكة الحفظ حفظ الأحاديث ( كأبى هريرة رضى الله عنه ) ، ومن لديه ملكة القيادة صار قائداً عسكرياً ( كخالد بن الوليد رضى الله عنه ) ، ومن كان لديه ملكة الصوت الندى صار مؤذناً ( كبلال بن رباح رضى الله عنه ) ، ومن لديه ملكة التجارة أصبح تاجراً عظيماً ( كعبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه) ، وهكذا ، كل شخص وضع في المكان المناسب له ليعطي أفضل ما عنده ، وفي النهاية ، تكون لديه باقة من القدرات والملكات تتكامل وتعطي مجتمع قوي مبدع ومبتكر ، وهذا ما نفتقده في مجتمعنا الحالي ، أننا نفتقد ملكات الإبداع والابتكار في كل المجالات ، في العلم والأدب والدين والفن وكل شيء ، لأننا لا نرى هذه المواهب ولا نحترمها .
وفى الآونة الأخيرة كثر الحديث عن ما يسمى ب " الذكاءات المتعددة " مثل الذكاء اللفظى اللغوى , والذكاء المنطقى الحسابى والذكاء البصرى الفراغى والذكاء الحركى والذكاء الفنى والذكاء الإجتماعى والذكاء الوجدانى والذكاء الروحى . وللأسف الشديد نحن لانقيّم فى أبنائنا غير عدد قليل من هذه الذكاءات غالبا الذكاء اللفظى اللغوى والذكاء المنطقى الحسابى , وهذا يهدر بقية ملكاتهم التى أودعهم الله إياها ويتركهم فى حيرة ويجعلهم يشعرون بالدونية لأن ملكاتهم ليست لها قيمة عند الناس الذين يحبونهم ويرعونهم . وهذه النظرة المختزلة للأبناء لا تتوقف عند حدود البيت وإنما تمتد أيضا إلى المدرسة ( بل ربما يكون مصدرها الأساسى فى المدرسة ) حيث يقوم النظام التعليمى على تقدير ملكات محدودة لدى الطالب ( غالبا اللفظية اللغوية والمنطقية الحسابية ) ويهمل بقية الملكات والذكاءات , ولهذا نجد الطلاب لا يحبون مدارسهم لأنهم لا يجدون أنفسهم فيها , وقد زاد من هذه المشكلة الإنتشار الوبائى للدروس الخصوصية والتى كانت فى فترة من الفترات بمثابة التعليم الموازى والآن أصبحت تمثل التعليم البديل , والتعليم فى الدروس الخصوصية يقوم على فكرة إعداد كائن امتحانى يحصد أكبر عدد من الدرجات ولا شئ غير ذلك , وهكذا يختزل الطالب كإنسان ويتحول لأداة تجمع الدرجات , فضلا عن اكتسابه صفات الإعتمادية والإنتهازية والإستسهال والمسايرة والنمطية وكلها صفات تخر ج لنا جيلا هزيلا لايعتمد عليه .
10 - مراعاة الترتيب والتكامل فى وسائل التربية :
قرر علماء التربية أن الوسائل التربوية تتبع حسب الترتيب التالى :
القدوة
الثواب
العقاب
ومع هذا نجد المربين لايولون القدوة أهمية كبيرة ولايولون الثواب اهتماما أو عناية , وربما تختزل العملية التربوية برمتها فى العقاب ويختزل العقاب فى الضرب .
وأذكر أننى كنت أزور عددا من المدارس ووجدت انزعاجا شديدا من المدرسين بسبب القانون الذى منع ضرب الطلاب فى المدارس , وكان هؤلاء المدرسون يتساءلون : " إذا كنا سلبنا هذه الوسيلة التربوية الأساسية فكيف نتحكم فى هؤلاء الطلاب وكيف نستطيع تعليمهم ؟" , وكان يبدو جليا أن لديهم اعتقاد راسخ أن العملية التربوية تسقط تماما فى حالة انتفاء عقوبة الضرب , وربما يعود ذلك إلى الثقافة السائدة لدينا منذ سنوات طويلة والتى اختزلت التربية فى العقاب واختزلت العقاب فى الضرب وأهملت سائر الوسائل التربوية الأكثر أهمية وتأثيرا مثل القدوة والثواب والوسائل الأخرى من العقاب كالعتاب والتوبيخ والحرمان ........ الخ .
ولكى تسير العملية التربوية بشكل صحيح لابد وأن تتوازن وتتكامل فيها كل الوسائل التربوية مع مراعاة الفروق الفردية بين الأطفال , فهناك من تكفيه الإشارة وهناك من تكفية نظرة العتاب وهناك من ينصلح بالقدوة وهناك من يحفزه الثواب وهناك من يحتاج للعقاب . والمربى الناجح هو الذى يعرف متى وأين وكيف يستخدم هذه الوسائل .